السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
كنت متوترة جدا ، أروح و أغدو بين المرآة و السرير ، تارة أطمئن على شكلي و تارات أعود أجمع بعضاً من أنفاسي التي نثرتها كلها بالارتباك الذي اعتراني ..
و بين الفينة و الأخرى أسمع صديقتي و هي تبتسم ساخرة محاولة تهدأتي تقول :
" تذكريني بيوم زفافي و كيف كنت أكاد أجن وسط أكوام الأفكار التي كانت تروادني ، لدرجة أن من كثرة لهفتي كدت ألغي كل شيء "
كان يبدو وصفها مبالغ فيه ، لكن القلق الذي كنت أعيشه حينها ربما دفعني لأن أفعل أكثر ..
أخيرا سأكون للذي أحببته و عشت لأجله ..
أخيرا سينتشلني من عذابات السنين ..
أخيرا حل اليوم الذي يأتي فيه أميري و يسرقني الى عالمه ..
أخيرا سأعيش أنا و أنت خالد ، تحت سقف واحد ..
لا و لن يفرقنا إلا الموت ..
آه ، كم كانت الدقائق التي تمر حينها كالسنوات ..
و كم كان قلبي يقفز مع كل طرقة على باب غرفتي ، أتوقع في كل واحدة منها أن تطل والدتي لتخبرني أن أستعد للنزول ..
لم تكن لحظات الترقب بالهينة ساعتها ..
حين أطلت أمي تشير لي بأن أقترب حتى أخرج ، تسارعت دقات قلبي ..
و قد كاد المسكين يغاذر القفص الصدري فارا خارجه ..
أو ربما أنا التي كادت تفر ..
جعلت أنزل على درجات السلم بكل حذر ، لم أكن أستطيع أن أتنقل بناظري بين الحضور من شدة الخجل ، و إني كنت أحس بنظراتهم تلاحقني ، و أكاد أسمع همسهم فيما بينهم ..رفعت عيناي ببطء أحملق في خالد ، و قد وقف في آخر الدرج يرتدي سترته السوداء بقميصه الأبيض ، يقف كما يقف كل سلطان في قصره ، تعتليه ابتسامته الجذابة التي عهدتها عليه و إلى جانبه صغيرته ليلى ..
آآه ، نسيت أن أخبركم ..
خالد زوجي توفيت زوجته الأولى قبل تعرفه علي ..
و تركت له ابنته الصغيرة ليلى ذات العشر سنوات ..
كانت تحمل من ملامح والدها الكثير ..
أكثر ما يثير الانتباه فيها هدوئها المستمر و تصرفها الرزين كأي شابة من سن العشرين ..
و يومها كانت تقف لجانبه كالأميرة الصغيرة بفستانها الأبيض الجميل وقد تدلت خصلات شعرها الناعم على وجهها .. أعتقد أنها هي الأخرى كانت تسرق بعض النظرات من الحضور ، فهي حتى رغم صغر سنها كان جمالها جليا و واضحا ..
اقترب مني خالد و مد يده الي ، فأمسكتها ثم بعد أن نزلت من على آخر درجة في السلم ، أحطت بيدي ذراعه و صرت و إياه حتى جلست على المقعدين المخصصين لنا و كانت ابنته تسير خلفي تحمل أطراف فستاني ..
ليلة أذكرها لحظة بعد أخرى ، لا يغيب عن ذهني أي شيء منها ، و لا حتى أدنى اشارة أو همسة أو حركة من الحضور نفسهم .. حتى كوب العصير الذي سقط من الطفل الصغير في أحد الأركان لازلت أذكره ..
انتهت الحفلة يومها و انطلقت أنا وخالد لبيتنا الجديد ، للبيت الذي طالما حلمت به ، البيت الذي عملت على تزيينه و ترتيبه بنفسي ، و بالطبع معنا ابنته الصغيرة ليلى ..
في الأيام الأولى بدت ليلى لطيفة معي ، لكن مع الوقت صار هناك شيء من تصرفاتها يثير قلقي .. فغيرتها على والدها مني أصبحت واضحة .. لدرجة أنها صارت تفتعل المرض فقط ليبقى الى جانبها ..
كنت آمل أنها لما تكبر ستتغير ، ستتفهم الأمر ، لكن الأمور سارت عكس التيار الذي كنت أعتقد .. و مع كل يوم جديد في حياة ليلى تزداد غيرتها و تكبر ..
حتى تحولت الغيرة الى كراهية و خصوصاً بعد ولادة ابنتي شيماء ..
** **
بعد وفاة والدتي عم منزلنا الصغير نوع من الكآبة ، بل الكآبة كلها ، صار والدي قلقا حزينا ، لا يعرف ما يقدم و ما يؤخر ، يهتم بي و بحاجياتي ، بينما أنا كنت غالبا شاردة الذهن ، ألمح طيف والدتي من فينة لأخرى يراقبني ، يبتسم لي ، يقترب مني و يحاول الامساك بيدي ، و أمد له يدي أنا الأخرى ، لكنه سرعان ما يختفي ، لأبدأ بالصراخ و أنادي
" أمي .. أمي .. أمي هل تسمعين "
هل تسمعين ؟ إني صغيرتك ليلى
هل كان أن أيتم و أنا صغيرة بالسن ، كل ما خرجت من المدرسة وجدت والدات صديقاتي بانتظارهن ، بينما أنا أجد أبي ..
و كلما ذهبنا للتنزه وجدت الأسر يمرحون مع بعض ، يتسابقون هنا و هناك ، يأخذ الأول للبقية الصور ، بينما أنا و والدي ، ننزوي على أحد الكراسي الاسمنتية نتناول البوضا وننظر للبقية و قد غمرنا الحزن على فقدان أمي ..
كان لابد لأبي أن يفكر بالزواج ، أن يحضى بامرأة ترعاه .. و كما زعم ، تعوض علي بعضا من النقص و ما حُرمت منه من حنان ..
لم أرحب بالفكرة بادئ الأمر ، لكن حالة والدي و وضعنا أرغماني على الموافقة ..
حينما حضرت العروس الجديدة لبيتنا ، حاولت ما أمكنني أن أتظاهر بحبي لها ، أن أقترب منها ، لكن كلما فعلت ذلك وجدتها بعيدا جدا أن تكون كوالدتي ..
و جدتني بعيدا جدا على أن أحتملها تقترب من والدي أو تسرق مني ما يعطينيه من محبة ..
و ليت الأمر بقي هكذا ، بل ما زاد تعقيد الأمور ولادة شيماء ، صار أبي لا يهتم بوجودي و يهتم لوجود شيماء ، صار لا يحملني كلما عاد للبيت و إنما يحمل شيماء ، بل وصار يطلب مني أنا أن أحملها كلما بكت ..
شيماء .. شيماء .. شيماء .. أحضروا شيماء ، انتبهوا لشيماء ، لا تنهروا شيماء ..
و ماذا عن ليلى ؟؟
ألم تكن تزعم يا والدي أن زواجك بانتصار هو لأجلي ، لأجل الاعتناء بي ؟؟
اذا أين ذلك الاعتناء .. بل صرت أنا من يعتني بشيماء ..
--------------------------------------------------------------------------------
كلما كبرت شيماء ، كبرت حساسية ليلى تجاهها .. كانت تضربها أحيانا و أحيانا أخرى تتشاجر و إياها دون أدنى استيعاب لفارق السن ..
حاولت أن أحدث زوجي بالأمر ولكن خِلت أن يعتقد أن ذلك ميولا مني ل شيماء ابنتي وتخل مني عن ليلى ابنته ..
إلا أنه كان واضحا أن بقاء الاثنتين في مكان واحد مع بعض فيه خطر على صغيرتي ..
" لقد كادت توقعها من السلم هذا الصباح ، ألم تنتبه أم أنك لا تريد الانتباه "
قلتها لزوجي لعله ينهر ليلى أو يأخذ أي تصرف تجاه ما بدر منها يومها ، إذ لولا تدخلي السريع لكانت ليلى دفعت بصغيرتي من أعلى السلم ..
لكنه بدل أن يستجيب لنظراتي العالقة الآملة أن يحدث ليلى ولاّني ظهره و قال :
" لا تزيدي الأمور تعقيدا عزيزتي ، إنه شجار عادي بينهما كما أي شجار بين كل شقيقتين "
لكن ليلى أبدا لم تكن لتعتبر شيماء شقيقة لها ، بل كانت دائما في نظرها دخيلة عليها ..
** **
كان لابد أن أضع للأمر حدا ، كان لابد من التخلص من شيماء ، و لكن لم أكن أعرف كيف .. و كل محاولاتي بائت بالفشل .. فلم يبقى أمامي إلا أن اتظاهر بحبها حتى يطمئنوا لي و يتركوها معي ..
لم يكن من السهل إقناعهم بتغيري و تقربي من شيماء .. لكن في الآخر نجحت ..
و في ذلك الصباح بعد تردد واضح على زوجة والدي انتصار من أن تتركها معي ، و بعد اصراري على ذلك قبلت أخيرا و خرجت مهزومة تاركة الصغيرة معي ..
إنها فرصتي أخيرا بالتخلص منها و قتلها ..
قتل ؟؟
هل قلت قتل ؟؟
أجل و إنها الوسيلة الوحيدة لا غير .. لم أكن أعلم أن حقدي و غيرتي سيدفعاني بسني المبكر لارتكاب أمر كهذا ، لكن الفكرة كبرت معي كلما كبرت شيماء ..
كلما كبُرتُ أنا و كبر اشتياقي لوالدتي و حرماني من والدي ..
أردت أن أعذبها قبل أن أقتلها فربطتها الى كرسي بأحد المقاعد ..
نظراتها الطفولية البريئة لم تكن تفارقني .. كانت تراقبني إن صح التعبير بغباء .. لكن تلك النظرات سرعان ما اختفت حين قربت سكينتي من على وجهها و أدرَكت أني أنوي بها شرا ..
بدون تردد توجهت لكتفها الصغير و ضربته بالسكينة بعنف ، فتطايرت دمائها الساخنة على وجهي الذي كان قريبا منها ، و الى جانب ذلك تعالت صرختها المدوية تجلجل في المكان .. أخذت تصرخ بألم ..
و مع صراخها ارتفع صراخ آخر ..
"صغيرتي ... شيماء ... لا "
لقد كانت اللعينة زوجة والدي قد عادت ..
لا أدري كيف لكني لم أكن لأسمح لها أن تفسد ما خططت له .. كان يجب أن أتخلص من شيماء حينها .. فطرت بسرعة خلف الكرسي الذي ربطتها اليه ، و هي لا تزال تصرخ و تتألم ..
وضعت سكينتي خلف رقبتها ووجهت نظرات حادة لوالدتها انتصار أقول :
"أي خطوة تخطينها ليست في صالحك أبدا .. لا أوصيك بذلك .."
شيء ما كان يخبرني أن هناك ما ليس على ما يرام .. أن صغيرتي في حاجتي .. لم أكن مطمئنة البتة لالحاح ليلى على ابقاء شيماء معها .. و ماكان مني إلا أن أعود أدراجي للبيت بعد أن انطلق زوجي في سيارته للعمل ..
لقد كانت طامة بانتظاري هناك ، دهلت للمشهد حين وقعت عيني على شيماء ابنتي و هي مربوطة إلى الكرسي و قد غاصت ذراعها في سيل دموي ، و ليلى تحوم حولها كما تحوم اللبوؤة حول فريستها .. صرخت و حاولت تهدأة ليلى ، لكنها لم تفعل بل هددتني و أني إن خطوت خطوة واحدة تقوم هي بقتل صغيرتي ، لم أدرك ما أفعله ولا كيف أتصرف ، لم أستطع التحرك لتهديدها و لم أستطع الوقوف دون فعل أي شيء و أنا أرى ابنتي في هذا الوضع . . جربت أن أخطو و ليتني ما فعلت ..
ليلى كانت تنتظر فرصة كتلك فلم أحس بها إلا و هي تغرس السكينة بعنق ابنتي .. جن جنوني ، طار عقلي من داخلي رأسي مع السيل الذي تفجر من ابنتي ليطير بسرعة يلطخ ما حولها .. ارتجفت أوصالي ولم يطاوعني لساني على نطق أي شيء ..
أحسست بركبتي تهويان غير قادرتين على حمل جسدي ، و لم أعد أقدر على الرؤية إذ بدأت جفوني تُغلق .. و أظنه أغمي علي ..
فلم أستيقظ إلا و أربع عيون تحدق بي ..
كان زوجي قد وصل و هو يضم ليلى إى صدره التي كانت ترتعش في خوف ..
ما إن تحركت حتى التصقت به أكثر و هي تصرخ :
" أبعدها عني ، قاتلة .. ستقتلني .. "
و لكن ؟؟
لم أستوعب ما يدور حولي و لم أرد استيعاب شيء ..
فما كان مني غير أن قفزت من مكاني بعد أن تذكرت شيماء ابنتي ..
قمت و أخذت أدور في الغرفة و أنادي عليها :
" شيماء .. ابنتي .. أين أنتِ .. شيماء "
و لما لم يجب أحد عرفت أن ما حصل لم يكن حلما
أحسست بالدوار مجددا .. فالتمست كرسيا إلى جانبي أتكئ عليه .. ليأتي صوت زوجي المؤنب في أسى :
" لقد قتلتي ابنتنا شيماء .. لما ذلك ؟؟ "
كان سؤاله كالصاعقة .. أنا لم أقتل شيماء بل كانت ليلى ..
أنا عدت لأني أحسست مكروها سيصيبها .. فوجدت ليلى تربطها إلى كرسي ..
أردت أن أنقذها لكن سكينة ليلى سبقتني لتسرقها مني ..
أنا لم أقوى على قول شيء بل إنها فقط أفكار دارت بسرعة في رأسي
و إني ما كدت أنطق بالحرف الأول حتى تعالى صوت سيارات الشرطة التي حاصرت المكان و اقتحمت المنزل ..
قيد أحدهم يداي غير مبالٍ بصراخي ..
و أخذ يجرني خارج المنزل ..
رمقت حينها ليلى التي كانت تبتسم إلي في خبث من تحت صدر أبيها ..
فأدركت تماماً حيلتها .. و كم صعب التسليم بأن هذا يصدر من صغيرة مثلها ..
طيلة فترة الاستجواب و المحاكمة لم أحاول قول أي شيء و لم أحاول الدفاع عن نفسي .. كانت تزورني والدتي بين الفينة و الأخرى محاولة اقناعي بالحصول على محامي لكني رفضت .. ما من شيء بعد بنيتي أعيش له ، و ما من داعٍ لأرغب بالخروج من خلف هذه القضبان فهي أرحم بكثير من ظلم الناس خارجها ... من الدنيا التي اكتسحها الظلام فجأة .. و إنه ليس بالهين أن أفقد قرة عيني و ثقة زوجي ..
يكفيني صديقا هذه الأربعة جدران ، تسمعني في هدوء ولا تعلق عن شيء .. أثق فيها تماماً و أعلم أنها لن تبوح بأسراري لغيري ..
" أتعلمين يا جدران زنزانتي .. إني أحسدك لأنك صماء .. لأنك لا تتعرضين إلا لتعرية الزمن .. أحسدك أنك دون فؤاد يُعرى بقساوة البشر و القدر "
لم يكن بالسهل التئام جرحي لولا زيارة صغيرتي لي ..
أجل شيماء لم تتركني وحيدة هنا ، بل كانت تأتي فتمضي بعض الوقت معي ، تبتسم لي و تعدني أنه لابد و الانتقام لي ، و إن روحها لن تهدأ إلا بعد ذلك ..
" يا صغيرتي لا أريدك أن تلطخي بقدارة دمائهم "
" والدتي ، لن يبرد دمي إلا بسيل دمائهم "
كان هذا أغلب ما يدور في حواراتنا .. كانت مصرة على الانتقام و كنت أحاول إقناعها بالعكس .. لكن على ما يبدو أن فكرتها بدأت تكبر معي أيضا لأقتنع بها أخيرا .. و في زيارتها لي ذات ليلة جائت و جلست على سريري المهترئ و نظرت إلي بتمعن تام تقول
" هل أنت متأكدة مماستقدمين عليه ، أستطيع الانتقام وحدي فلا داعي لذلك ، رحلت أنا فلما أنتِ كذلك "
لم أجبها فوراً بل أخذت أتأملها و أبتسم ثم أخرجت السكينة التي سرقت صباحها من مطعم السجن و تمتمت أقول :
" أن أقتل نفسي هين من السجن الكئيب الذي يقتلني ببطء ، غير أني أود أن أشهد لحظة انتقامك منهم "
--------------------------------------------------------------------------------
إلى هنا ينتهي الجزأ الأول ...
لكن رحلة الزوجة انتصار ، هل ستنتهي ؟
هل سيكون هناك انتقام .. أم أن بانتحارها تنتهي قصتها ؟
ماذا حل بخالد و ابنته ليلى و ما مصيره بعد الذي حصل ؟
هل سيحن إلى انتصار، أم أنه سيكره اليوم الذي عرفها فيه ؟
ليلى : هل ستجن أم أن الذي ستسرده لنا في الجزأ الثاني حقيقة ؟
كل هذا و ذاك تسائلات أدعوك لانتظار الاجابة عنها بالجزأ الثاني
و آمل أن يكون الأول قد نال اعجابكم
و يسعدني أن أسمع آرائكم و انتقاداتكم