مستر زودياكعبيد الموت (2) كان الاسم غريباً، ويدل على أنه ليس اسمه الحقيقي، وبالتالي لم ينقص الغموض ذرة عما كان عليه في البداية!!..
ويبدو أن مستر "زودياك" قد أُصيب بنوبة مفاجئة من النشاط –الدموي– في عام
69؛ حيث لم يمض أكثر من شهر حتى قام بجريمته الجديدة، وكانت الضحية -لأول
مرة- رجلاً منفرداً هو "باول شتاين".. الذي كان موته مفاجأة.. لأن بنيته
القوية كانت تمكنه من الدفاع عن نفسه جيداً، إلا أن الطعنات المنتشرة في
جميع أنحاء جسده دلت على أن مستر "زودياك" استطاع مباغتته والتغلب عليه في
لحظات..
في مشهد غريب جلس الجميع في مركز الشرطة في أماكنهم بدلا من البحث
والتنقيب انتظارا للمكالمة المتوقعة التي تحكي لهم كل التفاصيل!!..
إلا أنها لم تأتِ في ذلك اليوم، ووصل بدلاً منها في اليوم التالي خطاب
يحتوي على كل شيء، إلا أن مستر "زودياك" أضاف إليه شيئاً صغيراً.. أضاف
إليه قطعة صغيرة من القميص الذي كان يرتديه "باول" مغموسة في دم القتيل..
وتحذيرا من مستر "زودياك" بأنه سيستمر إذا لم يتم نشر هذا الخطاب على الملأ!!..
ونشر الخطاب في الصحف، مما سبب نوبة عارمة من الذعر بين المواطنين، خاصة
مع تلقي الصحف تفاصيل الجرائم السابقة من مستر "زودياك"، مع قطع الملابس
الملطخة بالدماء، التي كان يرفقها بها، وإصراره على نشر تلك الخطابات..
لقد أصبح مستر "زودياك" هو الوحش المفترس الذي يغتال الحلم الأمريكي!!..
وأصبح مادة لكل الصحف القومية في أمريكا، بعد أن توالت الرسائل والمعلومات
منه، وفي ختام كل منهما توقيعه الشهير -الذي أصبح أشهر من المزارات
السياحية- وأصبح الكل يخاف أن يخرج من داره بعد غروب الشمس إلا للضرورة
القصوى، وكل واحد يشك في كل من حوله.. حتى تحولت مدينة "سان فرانسيسكو"
إلى بيت للأشباح والرعب..
ومع اقتراب العام الجديد ووسط
احتفالات صغيرة محدودة وصل الخطاب الجديد، والذي كتب عليه من الخارج "عاجل
وخطير إلى المفتش المسئول عن قضية "زودياك" القاتل".. وفي الداخل كان
الخطاب بسيطاً، ودون أية إضافات..
"عزيزى مالفين..
"زودياك" يحدثكم..
أرجو أن تكون مستمتعاً باحتفالات العام الجديد.. والتي أظن أنها ليست في روعة كل عام.. إلا أنها لا بأس بها..
هناك شيء أريد أن أطلبه منك بمناسبة العام الجديد، ولنقل إنه هدية منك!!.
أرجوكم ساعدوني!!!..
إنني
لا أستطيع التوقف لأن ذلك الشيء بداخلي لا يتركني أبداً أتوقف، بل إني أجد
صعوبة شديدة في التحكم بنفسي والتوقف عن قتل الضحية التاسعة.. وربما
العاشرة أيضاً.. إني أغرق.. بل إني أفكر في تفجير حافلة مدرسة كاملة هذه
المرة، ولا أعرف كيف أوقف هذه الأفكار اللعينة!!..
أرجوكم ساعدوني لأني لا أستطيع التحكم في نفسي أكثر من ذلك.."
في نهاية الخطاب تألق توقيعه كأسوأ ما رأوه في ذلك الوقت..
* * *
زاد الذعر بين الجميع مع كل التوقعات العشوائية التي كانوا يحاولون من
خلالها معرفة مكان الضربة القادمة، وانتشر الخوف كالنار في الهشيم.. ومرت
عدة أشهر دون أن يضرب مستر "زودياك" ضربته، لكنهم كانوا يعرفون أنه بينهم
في كل مكان، وأنه فقط يستعد!!..
بالفعل لم يستطع "زودياك" التوقف طويلاً..
"كاثلين جونز" .
امرأة شابة في الطريق السريع بجوار سيارتها المعطلة، تشير إلى السيارات
المسرعة، لعل إحداها تعطف على حالها.. بالطبع كان يجب أن يكون هناك..
وبالطبع كان يجب أن يتوقف لها.. وبالطبع كان يجب أن تستقل سيارته..
لكنها أضافت شيئاً صغيراً قبل ذلك.. لقد أحضرت طفلتها الرضيعة من سيارتها..
في السيارة جلس السائق صامتاً، وهو يقود إلى أقرب محطة لتصليح السيارات،
حيث أرادت المرأة الشابة أن تصل، وبدا مظهره مخيفاً إلى حد ما وهو يحدق في
الطفلة بين الحين والآخر.. ثم بدأ الشك يدب في قلب "كاثلين جونز"، حين مرت
أكثر من محطة دون أن يتوقف عند إحداها، وحين تمالكت نفسها وسألته لماذا لم
يتوقف أجابها بأن "الوقت لم يحن بعد"!!..
حينئذ أصابها
الكثير من الانهيار والتفكك وهي تتذكر كل الحكايات المريعة التي كان
الجميع يحذر بعضه البعض منها، لكنها كالعادة كانت تقول لنفسها "هذا يحدث
للآخرين فقط"!!.. لكنها الآن أدركت وأعصابها تتفتت "أنه يحدث لي أنا..
والآن".. وغاصت "كاثلين" في مقعدها أكثر، وهي تحتضن طفلتها ولا تعلم ما
الذي سيحدث لها..
بعد ساعة ونصف من التجوال، وقفت السيارة إلى
جانب الطريق.. ولعدة دقائق لم ينبس أحد منهما بكلمة، في حين تعالى بكاء
الطفلة لسبب ما.. كل هذا أدى إلى انفجار "كاثلين".. وهكذا، بدأت في الصراخ
بهستيرية شديدة، ثم فجأة فتحت الباب المجاور، واختطفت طفلتها وانطلقت في
سرعة البرق إلى الغابة على جانب الطريق، وللحظة وسط صراخها نظرت خلفها وهي
تتوقع رؤية ذلك الوحش على بعد خطوات منها، إلا أنه كان لايزال بداخل
السيارة دون حتى أن يلتفت إليها، وبعد خمس دقائق أضاء أنوار السيارة
وانطلق بها، في حين وصلت "كاثلين" إلى أقرب مكان مأهول و.... وأغمى عليها..
في الوقت الذي كانت فيه قوة من الشرطة تتجه إلى مكانها، كان مستر "زودياك"
يتبادل حديثاً ودياً مع المفتش المسئول عن قضيته، وقال: "منذ قليل كانت
معي سيدة وطفلتها الرضيعة.. لا تخف، لم أقتلهما!!.. لقد منعني بكاء
الطفلة.. لكن يجب أن تكونوا أكثر حذراً، ولا تدعوا الأمور تسير بهذه
البساطة في المرة القادمة، إن ذلك لا يجعل الأحداث ممتعة على الإطلاق!!.."
تمت إحاطة "كاثلين" بجيش خاص من الحراس ورجال المباحث لحمايتها من أية
محاولة قتل.. وأيضاً حمايتها من الصحافة.. واعتبر الجميع أن شهر مارس من
عام 1970م سيشهد الفصل الأخير من مأساة "زودياك".. لكن ما حدث كان يكفي
ليفقد الجميع عقولهم تماما!!.. فلم تتم محاولة واحدة من مستر "زودياك"
لقتل أو اختطاف المرأة التي باتت الآن تعلم شكله وأوصافه، ويمكنها أن تضعه
وراء القضبان..
وفي نفس الوقت لم تكن هناك أية استفادة تذكر
من تلك الشاهدة.. حيث إن الأوصاف التي أفادت بها "كاثلين" كانت غير
مستقرة، وغير كافية!!.. بل إن أقوالها خلال التحقيقات تضاربت حول التوقيت
وأوصاف السائق أكثر من مرة، حتى أصبح لدى الشرطة رسماً توضيحياً لثلاثة
أشخاص يختلفون عن بعضهم البعض تمام الاختلاف!! مما جعل الاعتماد على
شهادتها في المحكمة –أو حتى في العثور على المتهم– ضرباً من الجنون!!..
وبدا كأن "زودياك" لا يمكن الإيقاع به أبداً!!..
لقد كانت قوة الحرب النفسية التي يشنها "زودياك" على ضحاياه أقوى مما يمكن
أن يتخيله أي أحد!!.. وإذا كانت هذه هي الحالة النفسية والعقلية
لـ"كاثلين" التي لم يمسها "زودياك" على الإطلاق، فلنا أن نتخيل الحالة
النفسية التي كان عليها باقي الضحايا.. لقد كان الخوف هو اللعبة التي
يجيدها مستر "زودياك"..
لكن "زودياك" لم يترك رجال الشرطة
ينعمون بالوقت الكافي لترتيب أوراقهم وأفكارهم.. فبعد شهر واحد ارتكب آخر
الحوادث المسجلة باسمه في سجلات المباحث الفيدرالية، حين أطلق الرصاص على
الضابط "ريتشارد رادينيك" حين حاول أن يحرر له مخالفة مرور!!..
هكذا أصبحت المحصلة ثمانية قتلى، وحالتين نفسيتين معقدتين.. وحالة من
الرعب الأسود الذي غطى مدينة "سان فرانسيسكو" كغيوم ملعونة لم يبدُ أنها
على استعداد للرحيل!!.. وسئم الجميع تلك اللعبة التي أصبحت بالنسبة لهم
أشبه بكابوس رهيب لا يمكنهم إيقافه..
لكن الكابوس توقف!!..
هكذا
فجأة.. في إبريل 1970م كانت آخر جرائم مستر "زودياك" مع ضابط المرور..
ولأشهر طويلة كان الجميع في انتظار الضحية التالية التي لم تأتِ أبدا..
لكن رسائل "زودياك" إلى الشرطة والصحف المحلية لم تتوقف حتى عام 1978م،
حين كانت آخر مرة يسمع فيها أحد شيئاً عنه.. وكانت رسائله تناقش بعض قضايا
المجتمع، أو حتى آخر الأفلام السينمائية..
حتى إنه في عام 1974م بعث برسالة إلى الصحف يقول فيها إن فيلم طارد
الأرواح الشريرة "Exorcist" –وهو أحد أروع أفلام الرعب في التاريخ– ما هو
إلا "كوميديا هزلية"!!..
السؤال الذي يراود أذهان كل من قرأ هذه الكلمات الآن بالطبع هو: هل تم القبض على مستر "زودياك"؟!..
الحقيقة أنه على الرغم من وجود العديد من الأوصاف له.. بل ووجود عدة بصمات
يشتبه في أنها تخصه.. إلا أنه لم يتم القبض عليه حتى الآن!!.. نعم، منذ
أكثر من 35 عاماً يجوب مستر "زودياك" الشوارع بيننا، دون أن يعرف أحد أنه
كان في يوم من الأيام سبب الرعب الأول في "أمريكا"..
ورغم
أن الشرطة قد قبضت على العديد من المشتبه بهم خلال الأعوام الثلاثين
الماضية –بل إن المباحث الفيدرالية قد قبضت على شخص منذ عدة أشهر يشتبه
أنه هو مستر "زودياك"– إلا أنه من الواضح أنه قد أجاد الاختفاء، والابتعاد
عن عيون الشرطة.. خاصة أنه على عكس كل القتلة المتسلسلين الذين عرفهم
التاريخ لم يكن يتبع أية قاعدة في اختيار ضحاياه، مما جعل توقع خطواته
التالية أمرا أشبه بقراءة الفنجان أو التنجيم!!..
\
* * *
اليوم لم يعد مستر "زودياك" أكثر من ذكرى سيئة لكل من عاش في تلك الفترة،
بينما تحول إلى مادة علمية وأدبية خاصة وشهيرة بين الشباب الجديد، خاصة من
يعيش في "سان فرانسيسكو".. لقد ظهرت مئات الكتب والتحليلات التي تتناول
نفسية وأعمال هذا القاتل، والتي لم يخلُ البعض منها من الإعجاب بقدراته
وتأثيره النفسي الذي كان يؤهله –كما قال أحد الكتاب– لأن يصبح أحد أبرز
القادة العالميين تأثيرا في البشر لو كان يحكم دولة مثل الولايات المتحدة
الأمريكية، وهو الأمر الذي لم يتوافر له للأسف!!!
من أشهر الكتب التي تناولت حياة "زودياك" كتاب "روبرت جراي سميث" الشهير
Zodiac، والذي يركز على تعامل رجال الشرطة والصحافة على وجه الخصوص مع هذا
القاتل المتسلسل، وكيف تغيرت حياتهم إلى الأبد..
المخرج
الشهير "دايفيد فينشر" –الذي قدم في السابق مجموعة من الروائع مثل Panic
Room وFight Club قرر تحويل هذا الكتاب إلى فيلم، وأقنع شركتي Warner Bros
وParamount بقليل من الجهد بوضع ميزانية ضخمة له، مع توقعات بأن يحصل
الفيلم على إيرادات ضخمة للغاية بسبب الاهتمام الذي مازال موجودا حتى
اليوم بهذا القاتل..
"دايفيد" جند مجموعة من الممثلين الجيدين
لهذا الفيلم –الذي لن يحتوي بالطبع على ممثل يقوم بشخصية "زودياك" الذي لم
يقبض عليه حتى اليوم– منهم "روبرت داوني جونيور" و"جيك جايلينهال" و"مارك
روفالو".. وسيبدأ عرضه في الولايات المتحدة الأمريكية في 10 نوفمبر 2006..
بقي أن نعلم شيئاً واحداً..
لماذا فعل مستر "زودياك" كل ذلك؟!..
إن الأمر لم يكن بدافع العنف للعنف، أو لمجرد إرضاء شهوة عارمة أو حتى
للسرقة، لكن مستر "زودياك" يشرح دوافعه "المنطقية" في أحد خطاباته إلى
الشرطة، حيث قال: "أنا أحب قتل الناس لأن ذلك شيء ممتع!!.. بل إنه أكثر
إمتاعاً من صيد الحيوانات المتوحشة في الغابات.. فالإنسان هو أكثر
الحيوانات على وجه الأرض خطورة وشراسة، ويحتوي على العديد من الأمور التي
تزيدني خبرة في الحياة!!..
لكن أفضل ما في الأمر، هو أنني
حين أموت وتولد روحي من جديد في الجنة، فإن كل من قتلت سيصبحون عبيداً
لي.. لذلك فأنا لن أخبركم عن اسمي أو هويتي لأنكم ستحاولون منعي من
الاستمرار في تكوين تلك المجموعة من العبيد..
عبيد مستر "زودياك".."
(*) الرسومات التي وردت هي الخطابات الحقيقية من مستر "زودياك" بخط يده الى الشرطة والصحف المحلية.. .......